نواكشوط (صحراء نيوز) غيب الرق، وطويت صفحة استعباد الخلق للخلق، وسطعت شمس الحرية، ناسلة في نفوس الناس، تروي فيهم نبتة الكرامة والعزة والإباء، وتمدهم بالقوة، والثبات في وجه أعدائهم، أعداء الإنسانية، كافية لتحرير المجتمع من ذل العادة والتقليد، منصفة لا ميزة -في سطوعها- لأحد على أحد، لا لغني على فقير، ولا لملك على مواطن، الكل سواسية، أحرار لا قيد في أيديهم، ولا غُلة حول رقابهم، غير أننا اليوم في القرن الواحد والعشرين، قرن الحداثة، وما بعدها، والتقدم، قرن الديموقراطيات، والحريات، وحقوق الإنسان، نعيش طقسًا رئيسًا في حياتنا، هو في جوهره رقٌ محض، واستعباد صريح، وسلب للحرية ظاهر، وتكميم لصوت الكرامة مُعلن، إنها العبودية الحديثة، الداء الفتّاك، والضباب الذي لا يأتي بخير، والقيد الذي لم يستكين له حر، إنها الوظيفة، السم الذي وجدنا آباءنا وذوينا يتجرعونه، بكل رحابة وسرور، ولماذا لا؟
وقد فتحوا أعينهم على الدنيا فوجدوا آباءهم كذلك، صباحًا يستيقظون للذهاب إلى الوظيفة، وعصرًا يعودون منها، ومساءً يتحضرون للذهاب إليها؛ فهي -كما يبررون- سند العمر الذي لا ينهار، واستمرار الدخل الذي لا ينقطع، والمنحة الإلهية التي لا بد وأن تسعى لنيلها، وإذا ما فعلت، فعليك أن توثق بها الأنامل، والأسنان، إنها إرث الحضارة الحي، المتجدد، الذي لا تطوله أيادي الفناء والغياب؛ إذ يحرص كل جيل على تسليمه للجيل الذي يليه، وكأنه روح الحياة، وكنه استمرارها، القيد الذي يولد به الجنين، والسجن الذي يسعى إليه الجميع وكأنه الجنة.
الوظيفة -غيّبها الله عنّا- القبر الذي يخسر فيه الإنسان ذهب عمره؛ إذ يدخله وهو في العشرين من عمره، فيودع عامًا تلو عام، ويستقبل آخر تلو آخر، حتى يأخذ بِمُخنّق الستين، وكأنه ليس من جديد، يختلف الليل والنهار، وتتبدل الأحوال، وتتغير الأطوار، وهو في قبره، على مكتبه الضيق، وفي غرفته المظلمة، يعمل ساعة، ويجترُّ أخرى، دون أن يشعر بمرور عقارب الساعة، التي تلتهم عمره دون هوادة أو رحمة، أو يكترث لدقات قلبه، النابضة في العدم، يدخل الموظف هذا القبر، طرير الشارب، أثيث الجمة، ريان من الشباب والقوة والأمل، ثم يخرج منه مخدود الوجه، أشيب الشعر، متداعي الجسم، فقير من المنى والذِّكر والمال، لا يصلح إلا عمودًا في مسجد، أو منضدة في البيت، أو طبق في المطبخ، فنى شبابه، ودفنت آماله، وضاعت أحلامه، ولم يجد شيئًا وراءه أو أمامه
"واجب الإنسان منا أن ينصح المسؤول عن الأمر، وأن يبين له ما في الأمر من سوء، ومغبة، فإن سمع وعاد فهو الخير، وإن كان صاحب سلطة وزاد عنده، وكرر رفضه، فلا بد من الاستقالة"، ما أذل الرضى بالوظيفة السيئة! التي تعود الإنسان على الخضوع للمستغل، والعمل تحت سلطته، فتسلبه كرامته، وتفقده إنسانيته، حتى يتحول إلى سجين يعمل برأي غيره، ولحساب غيره، فلا يتحرك ولا يسكن إلا بأمر، ولا يسير ولا يقف إلا في نظام، وهو يأكل حين لا يشتهي، وينام حين لا يريد، ويستيقظ حين لا يحب، وتتعطل ملكاته حتى يصبح كالإنسان الآلي، أعرف أنه ربما تضع الحياة الواحد منا تحت سطوة الالتزامات، والماليات التي لا يجد حلًا لها إلا الوظيفة، وأن هؤلاء ممن حملوا على عاتقهم، مصير غيرهم، قد ضحوا بأنفسهم في سبيل تسيير أمورهم، ولكن ماذا عني وعنك صديقي الشاب، في مستهل عمرك؟ أما زلت أنت أيضًا تسعى إلى سجن الوظيفة وعبوديتها؟ لا أقول لك لا تجرب، بل جرب، ربما يجود عليك الزمن بمدير صالح، يعاملك جيدًا، فيعلمك، ويمنحك إنسانيتك، بل اعمل في مائة مكان، لا مكان واحد، ولكن إذا ما ضاقت بك السبل تذكر أن لديك خيارًا خفيًا، اسمه الاستقالة، ذلك الخير الذي رغب عنه السابقون معظمهم، حبًا في الوظيفة، حتى أن الذي يقدم عليه، في نظرهم كمن ينتحر، أو يلقي بنفسه في التهلكة، ولعل العقاد هو أول موظف حكومي، يلجأ إلى هذا الخيار، ويقدم استقالته من مصلحة حكومية تلو مصلحة، حتى استقر به الأمر بلا وظيفة، ذلك أنه كان يقول: "الوظيفة رق القرن العشرين"، وكتب مقالًا يحمل العنوان ذاته، أصله فيه لوجهته، ودلل على موقفه من تجاربه، وربح البيع رحمه الله، وربما لم يكن العقاد هو العقاد الذي عرفناه وعرفه الأدب العربي لولا أنه ترك الوظيفة وتفرغ للأدب والكتابة.