وأنا أتسوق في أحد المتاجر في هامبورغ فوجئت بمعروضات من الملابس تحمل علامة صناعية مكتوباً عليها “صنع في بنغلاديش”، وقفت أتأمل والحسرة تملأني، وقفت أتساءل أين الصناعة المصرية؟!
أين المنتجات المصرية من القطن المصري طويل التيلة، الذي كان من أجود أنواع المنتجات القطنية في العالم؟ لدرجة أنه كان من إحدى الدلالات التي تظهر مدى تميز المرء وثرائه في الغرب في أوروبا وأمريكا ارتداؤه ملابس مصنوعة من القطن المصري، الذي كان يعد آنذاك من أغلى أقطان العالم وأفضلها في الجودة، فلقد شاهدتُ في لقطة من أحد الأفلام الأمريكية القديمة أحد الشخصيات في الفيلم وهو يتفاخر في وسط لفافة من الوجهاء بأنه يرتدي بزة مصنوعة من القطن المصري، وذلك في إحدى الاحتفاليات التي جمعت كبار الأثرياء في المدينة.
فقد كان يطلق على القطن المصري (القطن طويل التيلة)، ولذلك كان يعد أغلى وأجود أقطان العالم. وكان يطلق عليه أيضاً آنذاك الذهب الأبيض، لأنه كان عليه إقبال كبير عالمياً وطلباً زائداً لشرائه. وكان مصدر دخل مرتفعاً للفلاحين في مصر، كان الفلاح أو المزارع يبشر أولاده بالزواج بعد بيع القطن وشراء كل ما هو جديد للعائلة وحل مشاكلهم المادية.
نعم! ولكن للأسف الشديد تمّ لهم القضاء على ذلك كله، كما قضوا على أشياء كثيرة جميلة في مصر، لأنهم أعداء التميز وأعداء كل ما هو جميل وراقٍ، ليس بما كانت تمتلكه مصر من ثروات وعناصر طبيعية تميزها فحسب، بل أعداء قيمنا وثقافتنا الجميلة. فلقد دمروا أشياء كثيرة جميلة في مصر، لكن لم يكن تدمير الكثير منه عمداً، بل نم عن جهل وغباء، مدفوعين لذلك باستقواء وتعالٍ وغطرسة واستبداد، متميزين فقط في السرقة والنهب وتبديد ثروات البلاد، ومغمورين بالفساد، إنهم نتاج مدرسة 23 يوليو 1952.
فلقد تم لهم تدمير أحد أهم ما كانت تتميز به مصر آنذاك، تدمير أهم منتج مصري كان يدر على مصر أموالاً طائلة وبالعملة الصعبة، التي كانت من أهم مصادر الدخل القومي للدولة المصرية، والتي جعلت مصر في الماضي من أغنى الدول، ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل على مستوى العالم، حتى جاء من أطلقوا على أنفسهم آنذاك الضباط الأحرار، وهم المتحكمون في مصر حتى اليوم، الذين حوّلوا مصر من دولة كانت في الماضي وبالتحديد قبل 23 يوليو/تموز 1952، دولة ديمقراطية ملكية تشبهها دول أوروبية كثيرة، إلى دولة بوليسية قمعية استبدادية.
الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر – ويكيبيديا
هذه الدولة العسكرية عملت على تدمير مصر تدميراً شبه كامل، وعلى مدار سبعة عقود، حتى جعلوها من أفقر دول العالم، دولة غارقة في الديون، دولة شرعت في بيع أصولها الثابتة كدليل على إشهار إفلاسها، دولة أصبحت متسولة فاقدة للإرادة، دولة أصبحت دويلات صغيرة والبعض الآخر لم يكن له أي وجود في الماضي، يتدخلون في شؤونها ويحددون سياساتها الداخلية والخارجية، دولة أفقرت شعبها، وأهدرت كرامة مواطنيها في الداخل والخارج، دولة جعلت الكثير من مواطنيها يهربون إلى الخارج بعد أن سرق منهم النظام الحاكم الجاثم على صدورهم لعقود طويلة أحلامهم ومستقبلهم في بلادهم، ومعه مستقبل أولادهم وأحفادهم من بعدهم.
فلقد عملوا على تدمير الذهب الأبيض، وخصوصاً بعد اتفاقية الكويز بين مصر وإسرائيل، وبرعاية أمريكية، التي تسمح بدخول المنتجات المصرية السوق الأمريكية، بشرط أن يكون مكون المنتج يحوي 30% من مكونات إسرائيلية، والتي بعدها تم القضاء على القطن المصري طويل التيلة، وذلك بسبب التهجين، وتغيير صفات بذور زراعة القطن المصري.
فما اتفاقية الكويز هذه؟
في الرابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2004، وقّعت مصر بروتوكولاً في إطار ما يعرف بالمناطق الصناعية المؤهلة، كويز بالإنجليزية (QIZ)، مع إسرائيل والولايات المتحدة، والذي سمح بموجبه بدخول منتجات مصرية “ذات مكون إسرائيلي” إلى الأسواق الأمريكية معفاة من الجمارك، وذلك بعدما وقعه الأردن أولاً.
وهي بداية ولادة إمبراطورية أولاد الرئيس المخلوع حسني مبارك، التي عمل تحتها رجال أعمال مقربون، وأصحاب الصفوة والثقة، والذين أصبح لهم نفوذ قوي في الداخل والخارج، وخصوصاً بعد توقيع اتفاقية “الكويز”.
وبموجب هذه الاتفاقية أصبح هناك تعاون إسرائيلي مصري رسمي مفتوح، وفي كل المجالات، فمن الطبيعي أن تصبح أنشطة الإسرائيليين داخل مصر أنشطة تعاون تجاري، ويُلغى بذلك مصطلح التجسس.
كان مهندس هذه الاتفاقية الأستاذ جمال مبارك، الذي سافر خصيصاً إلى الولايات المتحدة أكثر من مرة لعقد اجتماعات مع مسؤولي البيت الأبيض، من أجل فتح الطريق للتوريث، ليرث الحكم عن والده، حاملاً تحت إبطه أوراقاً خدمية تحوي تنازلات كبيرة لمصر تخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية، منها اتفاقية الكويز هذه، وذلك لتسهيل نقل السلطة إليه، بصفته رجلاً مدنياً، من مخالب الجنرالات المتمسكين بالسلطة والتمهيد إلى ذلك. وبعدها قامت ثورة يناير/كانون الثاني التي أشعلها الشعب، لكن الجنرالات استغلوها ليُقصوا جمال، الذي كان فاسداً هو الآخر، لكنهم لا يريدون لفاسدٍ مدني أن يقصيهم من المشهد.
فخسر جمال مبارك بعد كل هذا كل شيء، وكسبت إسرائيل وإلى اليوم كل شيء، وفتح الباب للتعاون المصري الإسرائيلي على مصراعيه، وبلا حدود، وعلى حساب مصالح مصر وأمنها القومي، وعلى حساب المواطن المصري، الذي أصبح ضحية هؤلاء جميعاً.