قال زعيم المعارضة الديمقراطية إبراهيم ولد البكاي إن القطاع الزراعي ما زال يفتقد لرؤى واستراتيجيات ثابتة ومحدثة حاكمة له.
وأضاف ولد البكاي إن الأمر "خلق مناخا تسييرا للقطاع يقوم على التخبط ومزاج المسؤول الأول عن القطاع"، مؤكدا أنه "أضعف فرص تراكم التجربة والاستفادة من الإخفاقات بسبب عدم وجود سياسيات خاضعة للتقييم الدوري وموجهة لمنحنيات الصعود والهبوط في الأداء الزراعي".
جاء ذلك في تقرير أصدره زعيم المعارضة بعد زيارته للمنشآت الزراعية في عدد من الولايات، وهذا نص التقرير:
قمت بتأدية زيارة لولايات اترارزة و لبراكنة و كوركل قبل اشهر من هذه السنة لتفقد واقع قطاع الزراعة و مشاكل المزارعين و المستثمرين في قطاع الزراعة، و قد مكنتني هذه الزيارة التفقدية التي قمت خلالها بلقاء السلطات الإدارية و الجهوية المختصة و المزارعين و بزيارات ميدانية لعشرات المزارع من تحصيل صورة عن أهم الإختلالات التي تقف في وجه نهوض القطاع الزراعي و تطويره بما يضمن الاكتفاء الذاتي في مجال الأمن الغذائي، رغم ما تزخر به بلادنا من مقدرات تتيح لها تحقيق ذلك.
و يتناول هذا التقرير صورة تشخيصية لأهم العقبات و الإشكالات التي وقفت عليها، و آمل أن تساهم تصوراته و توصياتها في الدفع بالقطاع بما يؤسس لمرحلة جديدة تنتشل القطاع الزراعي من حالة التردي التي يعيشها.
تمهيد:
تمتلك بلادنا فرصا كبيرة في المجال الزراعي، فهي، حيث تقدر الأراضي الصالحة للزراعة فيها بحوالي 500 ألف هكتار؛ منها ما يزيد على 135 ألف هكتار أراضي قابلة للري علي الجانب الموريتاني من نهر السنغال؛ غير أنه لم يستصلح منها حتى الآن سوى 46 ألف هكتار. و مع حيوية النشاط الزراعي و ما يمثل من رمزية في النشاطات الاقتصادية التي تستوعب شريحة عريضة من السكان المحليين إذ تتجاوز نسبة المشتغلين بالقطاع نسبة 53% من القوى العاملة حسب المتوافر من الإحصاءات، إلا أن الجهود المبذولة فيه لا تزال ضعيفة حيث أن نسبة المستصلح من الأراضي لا يزال ضعيفا كما أن السمة البدائية لا تزال هي الغالبة على النشاط الزراعي رغم دخول أنماط من الزراعات الحديثة إلى هذا الحقل مثل زراعة الأرز في ضفة نهر السنغال.
لقد أخفقت جميع الأنظمة السياسية في النهوض بالواقع الزراعي رغم إعلان اهتمامها بالزراعة وسعيها لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء بما في ذلك التوجهات التي أعلنها رئيس الجمهورية الحالي فيما سمي ببرنامج أولوياتي الموسع في محوره الثالث ، حيث نص أن المحور الثالث يعالج تثمين مقدرات القطاعات الإنتاجية والتعجيل بتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء. ويستحوذ على 5.422 مليون أوقية أي 22,4% من مجموع التمويلات. ويرمي المحور إلى تكثيف استغلال المقدرات المحلية التي تتيحها قطاعات الزراعة والثروة الحيوانية والصيد مع ما يترتب على ذلك من الحد من التبعية للخارج . وستستفيد هذه القطاعات كذلك من التمويلات الهامة المرصودة للبنى الأساسية الريفية.
و مع ذلك فإن حصاد هذه السياسيات و التوجهات على الأرض لا يختلف عن غيره من السياسية السابقة التي عجزت أن تضيف حيوية للقطاع الزراعي و مخرجاته، و ذلك في حقبة زمنية أصبحت تحتم المزيد من الاستقلالية الغذائية بفعل العوامل الوبائية و الصراعات الإقليمية و الدولية.
أولا-غياب الرؤية و الإستراتجية: من الواضح أن القطاع الزراعي على محوريته و أهميته لا يزال يفتقد لرؤى و استراتيجيات ثابتة و محدثة حاكمة له، و هو ما خلق مناخا تسييرا للقطاع يقوم على التخبط و مزاج المسؤول الأول عن القطاع، و قد اضعف هذا الأمر من فرص تراكم التجربة و الاستفادة من الإخفاقات بسبب عدم وجود سياسيات خاضعة للتقييم الدوري و موجهة لمنحيات الصعود و الهبوط في الأداء الزراعي.
ثانيا-المشكل العقاري: يشكل موضوع المشكل العقاري أحد المعوقات الرئيسية في سبيل نهوض الزراعة. و مع أن ألأمر القانوني رقم:127\1983 المتضمن تنظيم الملكية العقارية ناف للملكية التقليدية المعيقة أمام الاستغلال الزراعي نصَّ في مادته الأولى على أن "الأرض ملك للأمة، ويحق لكل موريتاني، بدون أي تمييز، أن يصبح مالكا لجزء منها طبقا للقانون". ،و أكد في أكثر من سياق على أن "الأرض الموات ملك الدولة"، و"الأرض لمن أحياها" وغير ذلك من المبادئ التي من شأنها إن طبقت في جوّ من القبول، أن تشكل أرضية للمساواة والسلم الأهلي والعدالة الاجتماعية ، و مع كل ذلك فإن جهود الدولة لا تزال ضعيفة جدا في تطبيق هذا القانون. فيلاحظ تراخيا كبيرا من طرف السلطات الإدارية الجهوية في تطبيق مسطرة منح الأراضي للراغبين في استغلالها، فمسار تسوية المنح النهائي للأراضي بطيء جدا، و بعض مستغلي الأراضي ليست بحوزتهم ملكية تثبت حيازة الأراضي و بعضهم يمتلك فقط ملكية مؤقتة يعجز عن تحويلها لملكية نهائية بسبب البيروقراطية الإدارية.
ثالثا-ضعف استصلاح الروافد المائية على النهر: تواجه الزراعة المروية مشكلة كبيرة بسبب ضعف استصلاح الروافد المائية على النهر، فالروافد المائية مهلة و غير مهيأة بالشكل المناسب و المطلوب. لذا فإن مشكلة ضعف استصلاح الروافد المائية تعتبر من المشكلات الأساسية التي تعاني منها الزراعة.
و يزيد من تهديد هذه المشكلة للزراعة المروية انحسار مياه النهر، و تراجع منسوبه في ظل غياب تدخل حكومي لمعالجة هذا المشكل الجوهري.
رابعا-ضعف الإسناد الفني للمزارعين: من يزور المناطق الزراعية في الوطن يلاحظ إهمالا و تقصيرا كبيرين في حق الزراعة و المزارعين، فما تقدمه المصالح الحكومية المختصة في المجال لا يرقي لمتطلبات القطاع الزراعي و تطلعات المزارعين ، و يمكن حصر أبرز هذه المشاكل الفنية في ما يلي:
• ضعف كهربة الوسط الريفي: ضعف طاقة الكهرباء في المناطق الزراعية و ضعف كهربة الوسط الريفي من الأمور التي تضعف عطاء قطاع الزراعة المروية، فالاعتماد على الوقود في الزراعة المروية مكلف جدا. إن توفير الكهرباء و بطاقة جيدة من شأنه أن يؤدي إلى زيادة الإنتاج الزراعي دون هدر الموارد الطبيعية.
• غياب وسائل فعالة لمواجهة الآفات الزراعية: يشكوا المزارعون من غياب وسائل لمكافحة الآفات الزراعية التي تواجه مزارعهم، فجهود الدولة في هذا المجال لا تزال ضعيف في مناطق التدخل، و غائبة في الكثير من المناطق.
و تتأكد هذه الحقيقة في ظل إعلان منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) العام الماضي في بيان لها، من أن خسائر موريتانيا بسبب الآفات الزراعية تجاوزت 29 مليون دولار أمريكي، مضيفة المنظمة أن أكثر من مليون موريتاني تضرروا بشكل مباشر أو غير مباشر من الآفات الزراعية، و مشيرة إلى أن محاصيل الأرز كانت الأكثر تضررا بفعل هذه المشكلة.
• ضعف استخدام التقنيات الزراعية: يلاحظ ضعف كبير في استخدام التقنيات الزراعية الحديثة، و التي باتت تشكل عنصرا مهما في تطوير واقع القطاعي الزراعي و تحسين إنتاجية المحاصيل و المنتجات الزراعية بصورة عامة.
إن أي سياسيات زراعية لا تأخذ بالحسبان الاعتماد على التقنيات الزراعية الحديثة لا يتوقع أن يكتب لها النجاح، فأغلب المزارعين الذين التقيناهم لا يزالون يعتمدون على الوسائل البدائية في الزراعة و الري.
• فشل سياسيات توفير المدخلات الزراعية: من التحديات الجوهرية التي يواجه المزارعون ضعف مواكبة الدولة لانطلاقة الحملات الزراعية، و عدم قدرة المصالح المختصة بالزراعة على توفير المدخلات الزراعية في الوقت و بالكميات المطلوبة. و يضاف لهذا غياب مختبرات تحليل وطنية ذات جودة تسمح بمعرفة مدي مصادر البذور و صلاحيتها.
• ضعف البني التحية الزراعية: من المشاكل الجوهرية التي وقفنا عليها قلة وسائل الحصاد و احتكارها، و هو ما يعرض الحصاد لمشكلة كبيرة تتمثل في عجز المزارعين عن الحصول على معدات الحصاد في الوقت و قبل تلف المنتوج.
يحتاج تطوير القطاع الزراعي إلى المستوى الذي يسمح بتحقيق الأهداف الكبرى للقطاع إلى توفير البنية التحتية الضرورية لذلك ،مثل الحاصدات ومصانع التقشير واستصلاح قنوات الري وتوفير الكهرباء المناسبة وغير ذلك من أساسيات يتطلب توفيرها تمويلات ضخمة لا يستطيع المستثمرون الوطنيون توفيرها.
خامسا-ضعف الدعم المالي للمزارعين: لا يمكن أن نعول على إيجاد قطاع زراعي فعال و يحقق الاكتفاء الذاتي ما لم تستثمر الدولة و القطاع الخاص موارد طائلة في دعم المزارعين، و هو ما تفتقده الزراعة لحد الساعة، فحجم الأموال المستثمرة في القطاع الزراعي و آليات القرض الزراعي الحالي لا تستجيبان لطموحات المزارعين و لا لمتطلبات القطاع الزراعي. لذا فإن الدولة مطالبة بتوسيع دائرة الاستفادة من القرض الزراعي و عدم احتكاره على فئة مزارعي الأرز و وضع شروط جديدة تتيح المزيد من الولوج لفرص القرض الزراعي. كما أن استجلاب الاستثمارات الخارجية مهم لدعم و لتطوير الزراعة ، و ذلك في ظل شراكة مع المستثمرين تراعى مصالح ملاك الأرض المحليين.
فمقارنة بالنظم المتبعة عالميا لتطوير الزراعة، فإنها في بلادنا تفتقر للتمويلات الذاتية المناسبة، الأمر الذي يرتب على الدولة البحث عن تمويلات تسمح ببلوغ الأهداف التنموية الكبرى في مجال الزراعة وتحقيق الاكتفاء الذاتي من مختلف أنواع الحبوب والخضراوات والفواكه، والتي لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال هذا القطاع الحيوي.
سادسا-غياب الإرشاد الزراعي: لاحظنا أن الإرشاد الزراعي على أهميته شبه غائب في دعم الزراعة، و هو ما سيكون له أثر سلبي بكل تأكيد على العملية الزراعية، إذ يشكل الإرشاد الزراعي عنصرا هاماً وأساسياً لدعم وتطوير العملية الزراعية، ورفع الكفاءة الإنتاجية والاقتصادية للمنتجات الزراعية، وتوجيه المزارعين للوصول إلى تحقيق كفاءة الإنتاج، كما يسهم في تعزيز مساهمتها في عملية التنمية من خلال الوصول إلى زراعة متطورة تعتمد على أساليب حديثة في الإنتاج .
سابعا-غياب آلية فعالة لحماية المنتوج : علاوة على كل المشاكل السابقة، فإن المزارعون يواجهون مشكلة ما بعد الحصاد تتعلق في الأساس بعدم القدرة على تسويق المنتوج الزراعي بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج في مقابل قوة المنافسة الأجنبية وضعف القدرة الشرائية للمواطنين وضيق السوق المحلية وضآلة فرص التصدير للمنتج الزراعي الوطني و غياب وسائل التخزين و مصانع التحويل.
إن هذه الاختلالات الجوهرية في مجال الزراعة أدت إلي تراجع كبير في القيمة المضافة للقطاع و أنتجت ضعف مشاركة العمالة الوطنية في القطاع الزراعي، كما تسببت في ضياع مشاريع زراعية كبيرة في اترارزه (مزارع باغمون و الدخلة، و اركيز و انتيكان ) و لبراكنه (مشروع CPB ببوغي) و كوركول (PPG2 و PPG1 في كيهيدي) و في فشل المبادرات الزراعية الرامية لتوجيه حملة الشباب العاطلين عن العمل نحو الاستثمار في القطاع الزراعي.
إن عملية التشخيص لهذا الواقع الميداني لمشاكل و تحديات قطاع الزراعة، تجعلنا نتقدم بالمقترحات التالية علها تسهم في جهود النهوض بالقطاع، الذي لن نحقق تنمية مستدامة دون التركيز عليه بشكل جاد:
الصرامة و العدالة في معالجة المشكل العقاري و توفير وثائق المنح النهائي للمزارعين الذين يثبتون جدية في استغلال الأراضي الزراعية
وضع سياسيات و استراتيجيات تشاركية و طموحة للترقية القطاع الزراعي، تستجيب لمتطلبات الاكتفاء الذاتي، و إخضاعها للتقييم دوري مستمر.
إيجاد نمط من القرض الزراعي يتيح شروط مقبولة للمزارعين.
وضع سياسات تشجيعية و تحفيزية لصغار المنتجين في مجال تسويق المنتوج.
تبنى الدولة و دعمها لمؤسسات التأمين الزراعي التي تعوض المزارعين في حالات تعرض مزارعهم للآفات الزراعية.
وضع جدولة مريحة لديون صندوق الإيداع يستفيد منها المزارعون.
تشجيع مبادرات دعم ومساندة للقطاع الزراعي؛ من أجل استقطاب مزيد من الدعم الداخلي والخارجي للزراعة.
توفير البني التحتية و فك العزلة عن صغار و كبار المزارعين.
إنشاء قنوات و إذاعات رسمية متخصصة في القضايا الزراعية، تساهم في التثقيف الزراعي للمزارعين.